أثر الأنماط الاستهلاكية السابقة على المجتمع في مواجهة أزمة كورونا الاقتصادية

كورونا وفرصة مراجعة النفس:

تعالت الأصوات مرتفعة بعد مدة وجيزة من الإغلاق الاقتصادي جرّاء فايروس كورونا، وذلك للتعبير عن مشكلة السيولة وقدرة الفرد على الإنفاق، والحديث عن المدة الزمنية التي سيتحملها الفرد على الصعيد المالي، وعلى الرغم من الحجم الكارثي الذي سببه فايروس كورونا على الصعيد الاقتصادي العام، إلّا أن التساؤل اليوم يدور حول سلوك المستهلك ما قبل كورونا، وكيف تصرف بأمواله خلال العشر أعوام الماضية قبل كورونا وتحديدا بعد الخروج من الأزمة المالية، لا بل والحديث عن حجم الأموال التي احتفظ بها لمواجهة الفترات الاقتصادية السيئة، وذلك امتثالاً لقاعدة “القرش الأبيض لليوم الأسود”.
لقد اختلف نمط المستهلك الطبيعي في عصر ما بعد الحداثة بشكل كبير وجذريّ، وانتقل الاستهلاك من كونه سداً للحاجة الإنسانية من مأكل ومشرب وملبس، ليصبح الاستهلاك كتعبير اجتماعي، او طريقة للانتقال من طبقة اجتماعية إلى أخرى.
وقد تم تقديم العديد من الدراسات والأبحاث لفحص وتفسير طبيعة المستهلك وطبيعته الاستهلاكية، والتي تغيرت بشكل كبير وجذريّ، وذلك بالتزامن مع التغير الكبير في الإنتاج حجما ونوعا واختلاف نوع السوق وتوسع مداه، وقد تم التوصل إلى “نظرية الاستهلاك CCT”، وقدمت هذه النظرية تفسيرا كبيرا وواسعا لطبيعة الاستهلاك الغريبة، بل وغير المفهومة في كثير من الأحيان، وقد ذهب روّاد هذه النظرية إلى العديد من التفسيرات، فمنهم من أشار إلى العولمة، ومنهم من ذهب الاستهلاك من خلال الجماعات النمطية، ومنهم من ذهب إلى تأثير الإعلان والسوق المفتوح، ومنهم من ذهب إلى دور المرأة في ارتفاع نمط الاستهلاك.
وإذا عدنا إلى بيانات البنك الدولي فإن بياناته تشير إلى أمرٍ خطير جدا؛ حيث أشار إلى أن الإنفاق الكلي عام 2010 ناهز 9.7 تريليون دولار سنويا، يذهب منها 3.7 تريليون دولار على المأكل والمشرب، في حين يذهب الباقي على المسكن والسفر والملابس والطاقة، والصحة والتعليم والإنفاق الشخصي على التوالي وبنسب متفاوتة.
الغريب بالأمر أن الإنفاق بهدف الاستثمار لا يمثل من إجمالي الإنفاق العام 1%؛ حيث يتم إنفاق 94 مليار دولار فقط، وهذا الإنفاق يقع في الغالب بين الطبقات المتوسطة والعليا، أما إنفاق الطبقات المنخفضة والمنخفضة جدا في الدول النامية فإنه يذهب على الطعام والشراب أكثر من إنفاق الطبقات العليا والمتوسطة على هذين الأمرين.
وإذا أخذنا الفترة الزمنية الممتدة بين الأعوام 2013-2018 وهي الفترة التي شهدت تكنولوجيا الهواتف النقالة، فإن إجمالي الإنفاق على شراء الهواتف الذكية حول أنحاء العالم، يعبر عن نمط استهلاكي غريب، حيث ارتفعت قيمة الإنفاق على الهواتف الذكية إلى أكثر من نصف تريليون دولار عام 2018، والغريب أن هذا النمط الاستهلاكي نحو الهواتف الذكية لا يعبر عن حاجة ضرورية أو ميزة محورية تقدم للمستهلك الطبيعي الأمر الجديد، بل تعبر عن بعض جوانب “نظرية الاستهلاك” السابقة، وهو المحاكاة ضمن الطبقة الاجتماعية الواحدة، أو التأثير النسائي، أو انفتاح الأسواق العالمية.
إن ما سبق الإشارة إليه يعبر عن أمر خطير جدا، وهو أن النمط الاستهلاكي العالمي يمثل تقريبا 15% من إجمالي الناتج المحلي، وعلى الرغم من أن إجمالي الإدخار العالمي كان أكبر من ضعف الاستهلاك العالمي، إلا أن النمط الاستهلاكي أخذٌ بالارتفاع، في الوقت الذي انخفض فيه نمط الادخار العالمي منذ العام 2010 وحتى وقتنا الحالي بشكل أو بآخر.
إن كورونا اليوم يمثل لنا فرصة لمراجعة نمطنا الاستهلاكي، وإعادة النظر في حجم الإدخار، والتفكير بالسلع التي أقبلنا عليها خلال السنوات الماضية ومدى الفائدة التي تم تحصيلها والمردود النفسي والمادي بشكل أكثر حكمة، لأن هذه الفرصة التي قد يهدينا إياها كورونا حال خروجنا من كابوسه بإذن الله قد لا تتكرر مع أزمة أخرى لا سمح الله.

المراجع

Studying Consumption Behaviour through Multiple  Lenses, JOURNAL OF BUSINESS ANTHROPOLOGY, Annamma Joy &  Eric P. H. Li, 2012

The developing world’s 4.5 billion low-income people already a $5 trillion market, The World Bank

https://www.gfk.com/insights/press-release/global-smartphone-sales-reached-522-billion-in-2018/

https://data.worldbank.org/indicator/NY.GNS.ICTR.ZS

https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.MKTP.CD

مجدي النوري مُدون وصانع محتوى اقتصادي، عمل في مجال الدراسات في إحدى أهم المؤسسات الاقتصادية في فلسطين، وقام بكتابة العديد من المقالات والأبحاث الاقتصادية، لديه العديد من الشهادات والدورات الاقتصادية لدى العديد من الجهات المحلية والدولية