حينما نتحدث عن أن الثورة الصناعية قد انطلقت من انكلترا وذلك لاستقرار اقتصادها وأوضاعها الداخلية، فإن ذلك ينقلنا لطرح الأسئلة عن أسباب تراجع الأوضاع الاقتصادية في العدو والمنافس التقليدي آنذاك وهو فرنسا، وعديدة هي الأسباب، ولكن من الأسباب التي لا يذكرها التاريخ كثيرا، هو قصتي التي سأسردها اليوم عليكم.
هو رجل اسكتلندي اقتصادي ذو عقلية فذّة وذو تحصيل علمي عالٍ، إنه الاقتصادي المرموق “جون لو”، لم تؤمن دولته بأفكاره حينما طرح فكرة إنشاء بنك مركزي مملوك لأربعين من كبار الماليين، يقوم على فكرة إصدار ورق نقدي يغطيه عقار مرهون ويقوم بإقراض الأفراد والمؤسسات ومساندة الاقتصاد على النهوض، كما أن أحداً لم يستمع إليه في انكلترا أيضا، فشدّ الرجلُ الرحال إلى المنافس الأكبر وهو فرنسا، فرحب به وصي العرش ولكن بإجراء تعديل بسيط وهو أن يكون مملوكا للأفراد وتحت إشراف الحكومة، فأصدر هذا البنك أوراقا نقدية مضمونة 100% بالذهب والفضة ونجح في أعماله نجاحا كبيرا، وحسّن من الأوضاع الاقتصادية وحد من استغلال المُقرضين آنذاك بسبب رفعهم لأسعار الفوائد واستغلال حاجات الأفراد، ولكن طمع صاحبنا جعله يبالغ في طباعة النقود دون أي غطاء وجعل الناس يعيشون في رخاء كاذب وسرعان ما دفع بالاقتصاد الفرنسي إلى التضخم، وبالحقيقة فإن هناك من أنصف هذا الرجل مبررا فعلته بأنه لم يقصد من زيادة الأموال في أيدي الفرنسيين سوى إغاظة البريطانيين من مستوى معيشة الفرنسيين وليشعرهم بعاقبة رفضهم له.
ولكن البنك سرعان ما أفلس بعد الأزمة الاقتصادية التضخمية الطاحنة التي دخلت فيها فرنسا جراء كمية العُملات الهائلة غير المضمونة التي كانت في السوق، وتم طرد “جون لو” لا بل وأصبح طريدا للحكومة والأفراد متسولا في شوارع بريطانيا حتى رتبت له الحكومة البريطانية مكافأة جرّاء إفساده مالية عدوها اللدود فرنسا.
هل تعلمت فرنسا الدرس؟ لا بل قامت بإعادة نفس فكرة المصرف السابق وأصدرت مالا مضمونا، إلا أنه وسرعان ما ضغط رجال الحكومة على البنك لإصدار مال غير مضمون بالكامل فطبع البنك 15 مليون فرنك فرنسي، وصرح رجال الحكومة -مدعومين برجال الكنيسة- بأن الرب هو من يضمن هذه الأموال، فأقبل الناس على الأموال وشيئا فشيئا وجدت فرنسا كمية تقارب من 45 مليار فرنك آنذاك تم تغطية أجزاء منها ببعض أملاك فرنسا نفسها، وما أن بدأت الأزمة التضخمية في فرنسا حتى قامت الحكومة بإلغاء العملة مما زاد من سوء الوضع في فرنسا وتدهور أحوالها في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تنعم بعلمها ومخترعاتها الثورية التي أدت إلى قيام الثورة الصناعية.
إن القصة الماضية لا أطرحها على سبيل التسلية، ولا لسرد تاريخ غابر، إنما أعرضها لضرورة التفكير في الماضي والحاضر، ومعرفة الفرق بين من يفكر بالطمع ويفكر بالعلم ودراسة الخطوات قبل اتخاذها، وكيف أن بريطانيا لم تؤمن بأن كل ما قد يلمع أمامها ذهبا، وأن فرنسا لم تتعلم من أخطاء الماضي فكررت الخطأ بشكل أكبر.
مجدي النوري
مُدون وصانع محتوى اقتصادي، عمل في مجال الدراسات في إحدى أهم المؤسسات الاقتصادية في فلسطين، وقام بكتابة العديد من المقالات والأبحاث الاقتصادية، لديه العديد من الشهادات والدورات الاقتصادية لدى العديد من الجهات المحلية والدولية