بدأ الفيدرالي الأمريكي بعملية سريعة في رفع الفوائد منذ انطلاق الربع الأول من هذا العام، وذلك لمكافحة التضخم الذي كان قد أعطى إشارات خطيرة نهاية عام 2021، ولكن ومع كل مرة يتحدث فيه الفيدرالي، تأتي العديد من التصريحات والمقالات التي تشير إلى أن الفيدرالي سيتوقف عن سياسته قريبا، وفيما يلي أسباب عدم تراجع الفيدرالي عن رفع الفوائد حتى اللحظة، وهي الأسباب التي إما أنها ستخف وتيرتها أو ستنتهي تبعا للأحداث والمستجدات، أو أنها ستزيد من صلابة موقف الفيدرالي وفقا أيضا للأحداث والمستجدات.
التضخم : خطآن في عامين!
اعترف مسؤولو الفيدرالي والمسؤولون الأمريكيون الآخرون، والذين كان أبرزهم وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين، بأن التعامل مع التضخم جاء متأخرا.
حيث لطالما قال المسؤولون الأمريكيون إنهم قادرون على التعامل مع التضخم وإعادته إلى نطاقه المطلوب رغم وصوله نسبة 7% نهاية 2021.
بينما تحدث الآخرون عن أن عودة الحياة الطبيعية للاقتصاد الأمريكي والعالمي، سيدفع الاسعار إلى الاستقرار شيئا فشيئا.
إلا أن جميع الرهانات قد فشلت، سواء التخلص من الفايروس من جانب، وعودة الحياة الاقتصادية والتجارية من جانب آخر، بل والهدوء السياسي الذي طغى عليه الاضطراب الصحي من جانب آخر أيضا.
حيث استمرت الصين في سياسة إغلاقاتها لمكافحة الفايروس، ضمن استراتيجية ما عُرف بسياسة “صفر إصابة”.
وهو الأمر الذي أدى إلى حدوث اضطرابات تجارية مؤلمة على صعيد ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بل وأحد أكبر مصدرين العالم، وأكثرهم طلبا للوقود.
فأدى هذا الاغلاق إلى تخفيض المعروض من السلع والخدمات، وانخفاض الطلب على الطاقة من جانب آخر.
ليتعادل انخفاض المعروض السيء على جانب المتاح للمواطن، مع انخفاض الطلب على الطاقة الذي خفف من أعباء تكاليف الانتاج.
وقد استمر هذا الحال هادئا وبعيدا عن الانفجار بشكل عام حتى بداية شهر آذار حينما بدأ العالم بأسره وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية بلمس خطورة الموقف.
حيث ومع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، تم إشعال فتيل كرة اللهب الخاصة بارتفاع الأسعار لسببين رئيسيين، لم يحسب الجميع لهما أي حساب.
وهذان السببان يرتبطان بشكل رئيسي بالطرف الروسي، الذي يبدو أنه استغل الفرصة الاقتصادية بشكل كبير لأهداف سياسية.
أما عن السببين فهما:
-
ارتفاع اسعار الطاقة، نظرا لما تمثله روسيا على صعيد صادرات الطاقة، والتي تصل إلى 40% إلى أوروبا.
-
انقطاع السلع الأساسية، نظرا لموقع روسيا، وتموقع حربها في أوكرانيا التي تعد محورية في الطريق التجاري نحو الغرب.
وهذا ما دفع الفيدرالي نحو الانتباه إلى مشكلة التضخم الذي ارتفع من 7% نهاية 2021 إلى 8.5% خلال الربع الأول فقط.
فيما بدأ العالم بدوره أيضا بالشعور بخطورة التضخم، وتحديدا لدى القارة الأوروبية التي كانت أكثر من تلقى الضربات الاقتصادية، نتيجة العقوبات المفروضة من قبلها مع الولايات المتحدة ضد روسيا.
وهنا نبدأ مع المشكلة الأخرى التي بدأها الفيدرالي في التعامل مع التضخم الذي بدأ للعودة إلى مستويات خطيرة.
حيث كان الفيدرالي أول من بدأ التعامل مع التضخم، وذلك من جانب الطلب، والذي يهدف إلى تخفيض القوة الشرائية لدى الفرد.
فقام برفع الفوائد بمقدار 0.25%، ليترفع من مستويات 0-0.25% التي تم تخفيضها بعد انطلاق جائحة كورونا من مستويات 2% تقريبا.
إلا أن الإشكالية والخطأ هنا يكمنان في المستوى الذي تم رفع الفوائد به لمكافحة التضخم الذي وصل آنذاك 8.5%.
فبمقارنة التضخم المرتفع بهذه الزيادة الضئيلة، وبمقارنة هذه الزيادة الضئيلة بما حصل عليه الأمريكي من تريليونات الأموال الرخيصة التكلفة (صفرية الفوائد تقريبا خلال الجائحة)، فإنه يمكن الانتباه إلى أن تلك الزيادة كانت المستحيل أن تعالج التضخم في الظروف السياسية والاقتصادية آنفة الذكر.
وقد انخفض التضخم من مستويات 8.5% إلى 8.3% بين شهري آذار وابريل ليعود إلى 8.6% في شهر مايو.
ومع اجتماع الفيدرالي في شهر مايو، قام برفع الفوائد مرة أخرى بمقدار 50 نقطة، لتصل الفوائد بذلك 1%.
ولكن شهر 6 حمل المفاجأة الأكبر، وذلك حينما ارتفع التضخم إلى مستويات 9.1% وهي الأعلى منذ أكثر من اربعين عاما.
ليبدأ الفيدرالي في إدراك أن مقدارا بسيطا من رفع الفوائد لن يكفي، فقام باربع عمليات أخرى جاءت على النحو الآتي:
-
75 نقطة أساس بتاريخ 16/6/2022
-
ثم 75 نقطة أساس أخرى بتاريخ 27/7/2022
-
و 75 نقطة أساس أخرى بتاريخ 21/9/2022
-
ليختتم أحدث عمليات زيادة رفع الفوائد بمقدار 75 نقطة أساس بتاريخ 2/11/2022
وبانتظار أن يقوم الفيدرالي بآخر عملية رفع للفوائد منتصف الشهر القادم بمقدر يرجح أن يكون 50 نقطة أساس.
وليصل معدل الفوائد إلى 4.5% على الدولار الأمريكي وهي المستويات التي كان وصلها آخر مرة بتاريخ 31/10/2007.
وعلى الرغم من تأكيد رئيس الفيدرالي جيروم باول على مواصلة سياسته التشددية لمكافحة التضخم الذي لم يقدم نمطا معينا لتحركاته.
إلا أن العديد من التكهنات والتوقعات والتقارير والتصريحات الرسمية وغير الرسمية ما زالت تخرج على العلن للحديث عن أن الفيدرالي سيعدل عن سياسته لانقاذ الاقتصاد الأمريكي أولا ثم العالمي من التوجه نحو ركود اقتصادي كبير.
وهنا dأتي للحديث بشكل مباشر عن أسباب عدم تراجع الفيدرالي عن رفع الفوائد، وذلك وفقا للمعطيات الماضية والتاريخية.
أسباب عدم تراجع الفيدرالي عن رفع الفوائد:
أولا. البنوك المركزية الأخرى تواصل المسير:
حيث البنوك المركزية العالمية بدأت برفع الفوائد إلى مستويات، إما أنها تاريخية مثل بريطانيا (3% لم تحدث منذ عام 1989)، أو إلى مستويات تدرك تماما البنوك مدى خطورتها (مثلما صرحت كريستين لاغارد بأنها سترفع الفوائد لمكافحة التضخم حتى لو حدث ركود عام في أوروبا).
وهذا سيكون سببا واضحا بشكل كبير للفيدرالي للاستمرار في رفع الفوائد على الدولار لغرضين:
يتمثل الاول في سحب القدرة الشرائية، أو السيولة، وتخفيض الطلب على السلع وبالتالي انخفاض الأسعار.
بينما يتمثل الثاني في رفع قيمة الدولار وبالتالي القدرة على امتصاص الأسعار المرتفعة على المواطن الأمريكي.
ثانيا. الوضع الاقتصادي الداخلي:
يهتم المواطن الأمريكي بالمستويات السعرية للأصول والسلع والخدمات التي يتلقاها بشكل أكبر من اهتمامه بأية أمور أخرى.
ويواجه المواطن الأمريكي الآن ارتفاعات متتالية في كل الاصول التي يرغب فيها، أو يحتاجها لحياته الاساسية.
وبمقارنة هذه المستويات بما كان عليه الوضع فيلاحظ أن المواطن الأمريكي لم يعرف هذه المستويات منذ سبعينيات القرن الماضي.
أما بمقارنة مستويات الفائدة، فقد عاش المواطن الأمريكي في ظل الفوائد المرتفعة قبل عام 2006 حينما وصل أعلاها إلى 5.25% بتاريخ 29/6/2006.
وقد يعترض البعض على هذا الطرح قائلا:
“إن الفوائد في تلك المرحلة كانت نتيجة ازدهار اقتصادي (وإن كان ازدهارا مضللا)”.
ليكمل اعتراضه قائلا:
“فيما أن الفوائد المرتفعة الآن، والتي قد تصل إلى مستويات 2006، فإنها ستأتي في ظل ركود اقتصادي محتمل بشكل كبير”.
وهنا نجيب، بأن الفوائد التي كانت ترتفع قبل 15 عاما، كان نتيجة وضع اقتصادي مزدهر، دون إدراك بالاندفاع نحو أزمة عالمية.
فيما أن رفع الفوائد هذه المرة سيكون بهدف علاجي وبشكل معروف النتائج، بل وضمن إطار زماني محدود، حتى وإن لم يوضع له حتى الآن إطار زمني محدد، ولكنه وبحسب التوقعات فإنه لن يمتد حتى عام 2024.
وبذلك فإن رفع الفوائد سيكون حلا علاجيا أساسيا لمعالجة التضخم الذي لا يمكن للمواطن الأمريكي تحمله نتيجة أي خطأ في التعامل معه.
كما أن الفيدرالي يدرك تماما مدى خطورة التوقف عن رفع الفوائد أو تخفيضها، للرضوخ للاملاءات الداخلية والخارجية.
فقد قام بهذه الحركة نهاية سبعينيات القرن الماضي، ظنا منه أن التضخم سيعاود الانخفاض، ولكنه سرعان ما تفجر بشكل كبير، ليندفع معه فولكر لرفع الفوائد لمستويات وصلت إلى 20%.
وبذلك فإن الفيدرالي يدرك بأن مستويات فوائد قد تتجاوز 5% بشكل بسيط الآن، أفضل من تصحيح خطأ معين قد يدفعهم للعودة بشكل أشرس.
ثالثا. أداة الضغط السياسي ذات الطابع الاقتصادي:
يلاحظ وعلى مدى الشهور الماضية أن العديد من الجهات الرسمية والبنوك المركزية ووزراء المالية العالميين قد توجهوا نحو الفيدرالي لتخفيف حدة رفع الفوائد.
وقد تم تبرير هذا الطلب بالعديد من الأسباب، وابرزها:
-
ارتفاع الدولار الأمريكي الذي ألحق الضرر بعملاتهم المحلية وتأثيره سلبا على قدرتهم على الاستيراد.
-
ارتفاع الفوائد على القروض وتحديدا لدى الدول الناشئة والتي ستزيد من احتمالية التعثر.
-
الركود الاقتصادي العالمي الذي قد يندفع له العالم، نتيجة ارتفاع الفوائد وما سيتسبب به من مظاهر اقتصادية سيئة.
ولكن هذا التوجه سيمثل أداة سياسية قوية جدا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لزيادة نفوذها الممتد عبر ثمانية عقود.
وبذلك فإن الفيدرالي سيكون لديه العديد من الأسباب لمواصلة حربه ضد التضخم والذي تلعب فيه روسيا دورا لا بأس فيه، وهو الأمر الذي لن ترضى أمريكا أن تستسلم له، وأن تسمح له بالسير ضمن مسارات مستقبلية قريبة قد تجد نفسها عاجزة عن التحكم به في حالة رضوخها لأية إملاءات داخلية أو خارجية تطالب بالتوقف عن رفع الفوائد في الوقت الذي ما زال فيه التضخم يمثل ثلاثة أضعاف النطاق المستهدف حتى وإن انخفض دون 8% أو 7.9% كما هو متوقع.
بعد المصادر التي تم الاستناد إليها في سرد الأرقام:
مجدي النوري
مُدون وصانع محتوى اقتصادي، عمل في مجال الدراسات في إحدى أهم المؤسسات الاقتصادية في فلسطين، وقام بكتابة العديد من المقالات والأبحاث الاقتصادية، لديه العديد من الشهادات والدورات الاقتصادية لدى العديد من الجهات المحلية والدولية