لقد مرت البشرية بكارثة وُصِفَت بأنها أكثر الأوبئة دمارا في التاريخ ؛ حيث تمثلت تلك الكارثة بوباء الطاعون، أو الموت الأسود، والذي بلغ ذروته بين الأعوام 1348-1350 ، حينما تسبب بوفاة ثلث سكان أوروبا.
وقد اختلف المؤرخون منذ ذلك الوقت في تفسير حدوث هذا الوباء؛
فذهب فريق إلى التأكيد على أن سوء الأحوال الصحية وانتشار الفئران وعدم الاهتمام بالنظافة كان سببا في حدوثه.
فيما ذهب فريق آخر إلى أن هذا الوباء كان غضب من الله، وأنه إشارة إلهية لتصحيح أمور البشرية.
بينما اتهم المسيحيون اليهود بتسميم إمدادات المياه العامة في محاولة لتدمير الحضارة الأوروبية.
ويشير الباحثون إلى أن هذه الكارثة كان لها آثار طويلة المدى على سكان العالم، على كافة الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية.
وقد قدر المؤرخون بأن هذا الوباء كان كفيلا بتخفيض عدد سكان العالم من 475 مليون إلى 350 مليون نسمة.
وفيما يتعلق بالخسائر البشرية على صعيد العالم فقد كانت على النحو التالي:
-
قدر المؤرخ المعاصر جان فرويسارت عدد الوفيات في أوروبا بمقدار الثلث إلى نصف السكان، وبما يمثل نسبة 80% من السكان.
-
أما في المناطق الآسيوية، فيشير المؤرخون بأن منطقة هوبي الصينية كانت الأكثر تأثرا بهذا الوباء؛ حيث توفي 80% منه السكان.
-
فيما أُصيبت مناطق عديدة في الشرق الأوسط، وكانت الأمور مختلف عن المناطق الأوروبية حيث تأثرت المناطق الريفية بشكل أكبر من المناطق الرئيسية.
-
وقد وُصفت غزة وسوريا بأنها أكثر المناطق التي تعرضت للوفيات؛ حيث سجلت غزة أكثر من عشرة آلاف وفاة.
-
فيما فقدت سوريا اكثر من 400 ألف شخص خلال هذا الوباء.
وقد قدّر العلماء بأن العالم احتاج لمئة عام للتعافي من آثار هذا الطاعون على صعيد السكاني.
الآثار الإيجابية التي ترتبت على أكثر الأوبئة دمارا في التاريخ :
أولا. الآثار الاقتصادية والمعيشية:
على الرغم من الآثار المدمرة لهذا الوباء، إلّا أن الأمر اختلف كثيرا على الصعيد الاقتصادي فيما بعد؛
حيث تحسّنت أوضاع الفلاحين الإنجليز الذين استطاعوا النجاة من هذا الوباء، وذلك بسبب انخفاض أعدادهم بالنسبة للسكان.
فيما ذهب البعض إلى تفسير تحسّن أوضاع الفلاحين، إلى تلك الإجراءات الحكومية التي تم فرضها لمنع نشر الوباء من إغلاقات ومنع استيراد الحبوب وإعادة تنظيم الأمور الاقتصادية، الأمر انعكس إيجابا على الإنتاج المحلي.
كما أدى انخفاض عدد السكان إلى تحسّن أوضاعهم المعيشية على صعيد السكن، وذلك بسبب إعادة تنظيم واستغلال العقارات الموجودة.
إلى جانب استفادة الفلاحين الأوروبيين من الاهتمام الحكومي وقوانين حماية الأجور، وتحسّن ظروفهم المعيشية بعد تشجيعهم على ارتياد المناطق الحضرية التي تعرضت للدمار بشكل أكبر مقارنة بالمناطق الريفية.
ثانيا. على صعيد الابتكارات:
كما أدى هذا الطاعون إلى زيادة الابتكار، وتحديدا في تقنيات العمل، والتي انعكست بشكل إيجابي على العمالة.
وهو الأمر الذي قاد القرن الخامس عشر لأن يكون عصرا ذهبيا للازدهار، على صعيد فرص العمل الجديدة.
ثالثا. على الصعيد الاجتماعي:
لم يقف الأمر إيجابا على الصعيد الاقتصادي، بل انعكس أيضا على الصعيد الاجتماعي، وتحديدا في انخفاض ظاهرة العبودية.
حيث انخفضت ظاهرة العبودية، بعدما قام اللوردات بتقديم شروط أفضل للحيازة، فقام رب الأرض بتقديم الأرض للفلاح بصفقات تجارية مُجزية.
حيث يحصل الفلاح على الأرض مقابل حصول صاحب الأرض على دفعة سنوية ثابتة.
كما تغيرت قوانين الميراث الأوروبية، فبعدما كان يحصل الإبن الأكبر فقط على الإرث، تغيرت الأمور بعد الطاعون، وبدأ الجميع بالحصول على حصتهم في الميراث لزيادة توزيع الأصول وتشغيلها من قبل الجميع.
رابعا. على صعيد الصحة:
أما فيما يتعلق بالأمور الصحية، فقد تم تسليط الضوء على القصور في العلوم الطبية.
فأدى ذلك إلى تغييرات إيجابية في مجال الطب، فتم التركيز بشكل أكبر على التحقيقات التشريحية للوقوف على أسباب الوفاة.
وبدأت دراسة الأفراد لجسم الإنسان بشكل ملحوظ، وزادت أهمية الجراحين المتعلمين بدلا من التركيز على الأمور الدينية وتفسيراتها.
مجدي النوري
مُدون وصانع محتوى اقتصادي، عمل في مجال الدراسات في إحدى أهم المؤسسات الاقتصادية في فلسطين، وقام بكتابة العديد من المقالات والأبحاث الاقتصادية، لديه العديد من الشهادات والدورات الاقتصادية لدى العديد من الجهات المحلية والدولية