من مِنّا لم يسمع بسنغافورة، تلك الدولة الجميلة، والمتقدمة في مجالات مختلفة، إلّا أن هذا الأمر لم يكن وليد الصدفة أو الحظ، وإنما يعود وفقا للسنغافوريين أنفسهم إلى رجل واحد استطاع نقل سنغافورة من دول العالم الثالث إلى الأول .
ففي التاسع من آب عام 1965، نشر المذياع بيانا من تسعين كلمة، كان كفيلا بتغيير حياة السنغافوريين.
حيث قامت ماليزيا بإعلان استقلال سنغافورة عنها رسميا، وهو ما أكد عليه رجل سنغافوري سيصنع المعجزة اىسنغافورية فيما بعد.
إن الحالة السنغافورية تختلف كثيرا عن باقي دول العالم التي تسعى إلى نيل استقلالها.
حيث تم فرض الاستقلال على سنغافورة فرضا، وهو ما تسبب في تخوف السنغافوريين على مستقبلهم، في دولة لا تزيد مساحتها على 710 كم مربع، وتعتمد اعتمادا كليا على الدعم الماليزي.
بل إن الأدهى من ذلك، تمثل في خوف الشعب السنغافوري من مسألة زوال التواجد البريطاني من بلادهم.
وذلك لأنهم كانوا ينظرون إلى البريطانيين كثِقَلٍ تجاري واقتصادي جيد لهم، وسببٍ رئيسي في خلق الوظائف.
إلّا أن ذلك الحال اختلف كثيرا فيما بعد، فسنغافورة التي كانت ترزح تحت نير التحكم الماليزي والاضطهاد الإندونيسي، انتقلت بعد هذا التاريخ إلى مصافي الدول المتقدمة.
ويشير المتابعون والمؤرخون إلى سرٍ يكمن في شخص وحصافة القائد السنغافوري الفذ “لي كوان يو”.
والذي لطالما سعى الى نيل سنغافورة استقلالها، رغم عدم رغبة الحكومة الاتحادية في الخروج من عباءة ماليزيا.
حيث قاد لي كوان سنغافورة للخروج من هذا المأزق بالكثير من العمل الجاد والذكاء بعد توليه منصب الرئاسة.
وهو أمر ليس بغريب على سياسي شاب متقد الذكاء، وقانونيٍّ تلقى تعليمه في جامعة كامبريدج.
أما عن الوسائل التي قاد فيها “لي” سنغافورة إلى ما هي عليه الآن، فإليكم القصة عبر النقاط التالية:
قام “لي” في الأيام الأولى للاستقلال بالتعاون مع الجيش والشرطة، لمنع المعارضين لعملية الاستقلال من القيام بأية أعمال شغب.
ثم قام بالتركيز على الحق السنغافوري في اعتقال رجال العصابات في المجتمع السري الذي كان يهين المجتمع الداخلي بشكل كبير.
أبدى تعاونه الظاهري مع السلطات البريطانية، لطمأنة الشعب على مصالحهم التي كانوا يربطونها بالتواجد البريطاني.
قام بإجراء تعديلات دستورية تتماشى مع طبيعة الشعب السنغافوري من جانب، والرؤية والطموح المستقبلي من جانب آخر.
لم يهمل التعامل مع الفواعل السياسية القوية مثل بريطانيا وأمريكا وحلفائها.
وذلك بهدف تقوية الأمن القومي في الداخل، والعلاقات الاقتصادية بين سنغافورة والخارج.
ثم قام بالتركيز على الصناعة بدلا من التركيز على السياحة في البداية، نظرا لتراجع غلة السياحة التي تدهورت بعد الاستقلال.
ولأن “لي” كان مدركا لمستوى الضعف الموجود في الدولة، فقد تقدم بطلب غريب من السلطات البريطانية قبل رحيلهم من سنغافورة.
حيث طلب منهم عدم تدمير أحواض سفنهم، وذلك لتحويلها لمنشآت صناعية للاستخدام المدني.
كما أدرك “لي” مدى أهمية الاستثمارات الأجنبية بعد سنوات من الخطأ والتجربة في مختلف المجالات الاقتصادية، فقام بسن تشريعات لتشجيع الشركات متعددة الجنسية.
وقد انعكست هذه الجهود في جلب الكثير من الأمريكيين واليابانيين والأوروبيين على تأسيس قاعدة لهم في سنغافورة، لتتمكن سنغافورة من إنشاء بنية تحتية تنتمي لدول العالم الأول.
أما على الصعيد المجتمع الداخلي، فقد قام “لي” بترسيخ مسألة غاية في الأهمية في الشأن الداخلي.
حيث عمل على القضاء على العنصرية، والاهتمام بمسألة التعايش بين مختلف الجاليات والأديان، وفرض عقوبة على كل من يقوم بأي تصرف عنصري.
وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة لآراء “لي كوان” فيما يتعلق بالصراع العربي الاسرائيلي، ونظرته السلبية للإسلام والمسلمين، إلّا أن المجتمع المحلي والدولي ينظر إليه كصانعٍ للدولة الحديثة ومعجزتها.
بل ويعتبرونه صاحب الفضل في نقل سنغافورة من العالم الثالث إلى الأول، من خلال إصلاحات اقتصادية سياسية مجتمعية شمولية.
مجدي النوري
مُدون وصانع محتوى اقتصادي، عمل في مجال الدراسات في إحدى أهم المؤسسات الاقتصادية في فلسطين، وقام بكتابة العديد من المقالات والأبحاث الاقتصادية، لديه العديد من الشهادات والدورات الاقتصادية لدى العديد من الجهات المحلية والدولية