حينما نتحدث عن أكثر الأمراض فتكا والتي أصابت العالم خلال المائة عام الماضية، فإننا بلا شك أمام فايروس الإنفلونزا الإسبانية، والتي تفجرت آثارها عام 1918 واستمرت حتى عام 1919؛ بحيث أودت بضحايا قُدر عددهم بين 40-50 مليون شخص، وسأحاول في المقالة السردية التالية الإجابة عن تساؤلات عدة هي: ما هي الآثار الاقتصادية و هل ساعدت الإجراءات الحكومية في إنهاء الإنفلونزا الإسبانية ؟
إن الغموض يحيط بأسباب هذه الإنفلونزا بسبب ضعف التسجيل والتوثيق في تلك المرحلة الحرجة من التاريخ.
ولكن الكثير من الدراسات رجحت أسباب هذه الإنفلونزا إلى الأمور التالية:
سوء التغذية والأحوال الصحية الصعبة في المعتقلات وخيم الأسرى والجنود.
وعلى الرغم من تسميتها بالإنفلونزا الاسبانية، إلا أن إسبانيا لم تكن منشأَ لها؛
ولكن اهتمام وسائل الإعلام الإسبانية بهذا الفايروس ونقل أحداثه ومتابعته بشكل مكثف، دفع الناس إلى تسميت هذا المرض بالإنفلونزا الاسبانية.
أما عن المصدر والمنشأ الحقيقي لهذا الفايروس فتختلف الروايات فيه أيضا بشكل كبير؛
فهناك من أشار إلى أمريكا كمنشأٍ لها، وهناك من اتهم الصين كمتسبب فيها.
فيما أشار عالم السياسية أندرو براسي إلى النمسا كمتسبب في هذا الفايروس.
الآثار الاقتصادية للإنفلونزا الإسبانية وكيف انتهت ؟
قبل الدخول إلى الآثار الاقتصادية لفايروس الانفلونزا الإسبانية لابد من الإقرار بالحقائق التالية:
أولا. حدثت هذه الانفلونزا على ثلاث موجات رئيسية، بحيث كانت الموجة الثانية هي الأكثر فتكا في شتاء عام 1918.
ثانيا. لقد مر العالم بأكثر من جائحة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات؛ بحيث أودت كل واحدة بحياة الملايين، وهذه النقطة احتفظوا بها جيدا حتى نهاية المقال.
نأتي الآن إلى الأثر الاقتصادي للإنفلونزا الإسبانية؛
فعلى الرغم من قلة الاحصائيات، إلا أن هناك من قام بتتبع بعض الأخبار الصحفية والدراسات التاريخية لقياس آثار الوباء على الصعيد الاقتصادي، ومن أبرز هذه الآثار:
– انخفاض في مبيعات البقالة بنسبة 30% في أمريكا.
– حدوث نقص حاد في العمالة مما ألحق الضرر الكبير في الإنتاج الصناعي.
– انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنحو 6% خلال الفترة 1918-1921.
هل ساعدت الإجراءات الحكومية في إنهاء الإنفلونزا الإسبانية ؟
لم أجد الكثير من المعلومات عن مدى جدوى الإجراءات المتبعة في التعامل مع الإنفلونزا الإسبانية في ذلك الوقت.
إلا أن اللافت في الأمر أن الدول قامت آنذاك بمثل ما تقوم به الآن من حيث الحث على مسألة التباعد الاجتماعي وتقليل التفاعل الاجتماعي.
ولكن الفرق ما بين الماضي والحاضر يتمثل بقيام الأسر بتقليل التفاعلات الاجتماعية طوعاً بغض النظر عن تدخلات وإجراءات الحكومة لتقليل خطر الإصابة بالعدوى.
وذلك لإدراكهم التام بمدى ضعف الحكومات المرهقة من الحرب، وضعف الإمكانات الطبية المتواجدة آنذاك.
وقد تمثلت المصيبة بالموجة الثانية والتي سجلت أعلى الوفيات والإصابات على الإطلاق، وهو ما دعا الدول لإعادة فرض القيود بشكل إجباري في شتاء عام 1918.
إلا أن هذه الإجراءات والقيود كلها لم تخفف من آثار الفايروس الصحية المميتة، والاقتصادية السيئة؛
إذن كيف انتهت الإنفلونزا الإسبانية:
نحن هنا أمام احتمالين اثنين في مسألة انتهاء هذا الفايروس الذي تمثلت ضحاياه بالشباب وأولئك العاملين في الأعمال ذات الاحتكاك المباشر.
فإما أن هذا الفايروس انتهى مع مرور الوقت واكتساب الناس المناعة اللازمة بعد تعرضهم للإصابة.
وإما أن هذا الفايروس لم ينتهِ أساسا وهو ما اشار إليه الصحفي تيدي أمينبار حينما كتب على صحيفة الواشنطن بوست ما يلي:
إن الانفلونزا الإسبانية لم تنتهي اصلا، بل لقد ترسخت كمرضٍ معدٍ في البشر والحيوانات، وتطورت عبر الزمن”.
وأضاف:
” لقد تطورت الانفلونزا لتصل إلى موجات من الأمراض المميتة ابتدءً من النصف الثاني من القرن المنصرم، مرورا بانفلونزا الخنازير وصولا للجائحة الحالية.
وهذا الرأي قد يكون حقيقيا لأن العالم تعرض بعدها لأكثر من جائحة، وقد نوهت إلى ذلك في نقطة سابقة في هذه المقالة أكدت على ضرورة التركيز عليها.
إن هذه المقالة تشير إلى أمرين خطيرين جدا يجب أن ينتبه لهما صُنّاع القرار الآن:
أولا. إن القيود الحالية تزامنت مع عدم وعي كامل من قبل الجموع بالمرض في بداية الأمر، وعدم إيمانهم بجدوى القيود دون وجود وسائل حمائية لهم على الصعيد المادي، وهو ما أدى إلى تفشي المرض.
ثانيا. لماذا تم دعم التكنولوجيا في المجال الخدماتي الربحي البحت، ولم يتم توجيه الدعم الكامل أو شبه الكامل والكافي لتوجيه التطور التكنولوجي الهائل نحو المجال الطبي الوقائي الاستباقي؟
والأمر الثاني يعتبر مصيبة وطامة كُبرى؛
خاصة إذا لاحظنا أن العالمَ متروكٌ في مواجهة هذا الفايروس لفترة تشبه تلك الفترة التي تُرك العالم فيها لمواجهة الإنفلونزا الإسبانية.
مع الأخذ بعين الاعتبار واحترام رأي من سيقول بأن أعداد الإصابات والوفيات أقل بكثير عن ما سُجل سابقا وهو دليل على التقدم العلمي الحالي.
إلا أنني سأوجه سؤالا واحدا لأصحاب هذا الرأي:
هل تضمنون أن لا يستفحل الأمر سوءاً ونحن ننتظر التوصل إلى اللقاح الفعال والنهائي؟
وهل تضمنون وصوله بأسرع وقت وبطريقة آمنة ومشجعة للتناول وبثمن منطقي؟
بل هل تضمنون أن يقوم هذا اللقاح بالتعامل مع أي تطور جيني للفايروس في القريب العاجل أو في أي وقت؟
مجدي النوري
مُدون وصانع محتوى اقتصادي، عمل في مجال الدراسات في إحدى أهم المؤسسات الاقتصادية في فلسطين، وقام بكتابة العديد من المقالات والأبحاث الاقتصادية، لديه العديد من الشهادات والدورات الاقتصادية لدى العديد من الجهات المحلية والدولية