حينما انتهت الحرب العالمية الثانية، كان الاقتصاد الألماني يعيش في حالة من الخراب الكامل، حيث دمرت الحرب 20% من المساكن، إلى جانب تسببها في موت الكثيرين من الرجال القادرين على العمل في ألمانيا، وهو ما أدى إلى انخفاض الإنتاج الصناعي، إضافة إلى تحملّها تكاليف ما بعد الحرب من قبل الحلفاء بقيمة 2.4 مليار دولار امريكي كتكلفة احتلال ألمانيا، إلا أن ذلك لم يمنع ألمانيا من صناعة المعجزة الاقتصادية الحية حتى وقتنا الراهن، وهنا تجب الإشارة إلى دور القائد الحقيقي في صناعة المعجزة الألمانية قبل سبعين عاما، وهو ما تقوم به المستشارة الألمانية أنجيلا ميريكل في وقتنا الحالي.
لقد كتب الباحث David R. Henderson مقالة عن المعجزة الاقتصادية الألمانية، ذكر فيها كيف نشأت هذه المعجزة خلال مدة قصيرة بعد الحرب بفضل حنكة القائد الحقيقي “لودفيج إرهارد”.
ما قبل حدوث المعجزة الألمانية:
وقد أشار إلى أن الشعب الألماني كان يرزح عام 1948 تحت فقر شديد بسبب ضوابط سعرية لمدة 12 عاما، وتقنين لمدة تسع سنوات، وهي الضوابط الذي جرت لدى معظم الدول خلال الحرب، وقد أدى النقص الشديد في الموارد الغذائية، لدفع الألمان إلى زراعة طعامهم بأنفسهم، فيما ترك البعض الآخر أعمالهم لغايات ومقايضة سلعهم بالطعام، وقد وصف حاكم الاحتياطي الفيدرالي هنري واليش، في كتابه لعام 1955، الوضع المعيشي الألماني الصعب، حينما قال بأن المسافرين كانوا يسافرون عبر عربات السكك الحديدة المتهالكة والتي اختفى منها كل أمر قابل للسرقة، للعثور على شيءٍ يأكلونه.
صناعة المعجزة الألمانية عبر رؤية القائد الحقيقي:
إن الحديث عن استخدام بلد معينة لآليات المقايضة، في الوقت الذي ينتقل فيه العالم من عالم الميكنة والمكائن، إلى عالم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، يعبر عن أمرٍ كارثيّ قد يمحو بلدا بأكمله من على خارطة العالم الحديث، إلا أن ما أنقذ ألمانيا من الوقوع في مثل هذه المعضلة، هو تدخل القائد الحقيقي لصناعة المعجزة الألمانية “لودفيج إرهارد” المُنتمي لمدرسة تؤمن بالسوق الحرة الاجتماعية أو ما يطلق عليه مسمى “Soziale Marktwirtschaft”؛ حيث قام “إرهارد” بطرح أمرٍ عصري وذكي، وهو تطبيق الأسواق الحرة، وإصلاح النظام الضريبي، وسن قوانين مكافحة الاحتكار، والدعوة لإصلاح العملة، حتى يكون حجم العملة متماشياً مع كمية السلع، وإلغاء ضوابط الأسعار، للمساهمة في تخفيف مشكلة التضخم الرهيب .
وقد قام “إرهارد” عام 1947 بتقديم المشورة الاقتصادية للسلطات الأمريكية في ألمانيا الغربية التي كانت تحت سيطرة أمريكا، من خلال خطة إصلاح العملة الألمانية، التي تمثلت باستبدال عملة الرايخ بعدد أقل بكثير من المارك الألماني (العملة القانونية الجديدة)، وبعد فترة وجيزة انكمش المعروض النقدي بنسبة 93% كنتيجة مباشرة للخطة، ثم ألحق “إرهارد” الخطة بقانون إجباري وقوي، لمكافحة التحكم والتلاعب بالأسعار، مع الغاء قوانين ضبط الأسعار، وهو ما يُعيد الناس للتجارة بربح معقول، وعدم التحكم بالأسعار التام من قبل الحكومة بشكل قد يضر بصالح الشعب بحجة الحفاظ على الصالح العام.
ولمن يسأل عن جدوى هذه الخطوة، فيكفي الإشارة إلى أن حاكم الفيدرالي الأمريكي قام باتباع نفس السياسة الألمانية في السوق الأمريكي لاحقا.
ثم جاءت الخطوة الهامة والرائعة التالية، وذلك حينما قامت الحكومة الألمانية بتخفيض معدلات الضرائب.
وخلال أيام قليلة من هذه القوانين والإجراءات كانت المتاجر مليئة بالسلع، وذلك بسبب إدراك الناس بأن العائد الذي سيعود عليهم من بيع سلعهم بالمال ستكون ذات قيمة كبر من مقايضتها بسلع أخرى، وهذا ما أدى إلى عودة المال كوسيلة مفضلة للتبادل والحوافز النقدية باعتبارها المحرك الرئيسي للنشاط الاقتصادي.
وقد أدت هذه القوانين إلى تخفيض التغيب عن العمل، ذلك بعد أن أدرك العاملون بأن عملهم سيقدم لهم مردودا أكبر من المردود الذي يعود عليهم من ترحالهم من منطقة لأخرى ومقايضة الطعام، وهو ما دفع مؤشر الانتاج الصناعي للارتفاع بنسبة 78% خلال ثلاث سنوات، وبحلول عام 1958، ارتفع الإنتاج الصناعي أكثر من أربعة أضعاف معدله السنوي مقارنة بشهر ونصف قبل خطة إصلاح العملة عام 1948.
هذه الأفكار والجهود خولت إرهارد لتولي منصب وزير الشؤون الاقتصادية في ألمانيا الغربية حتى عام 1963، ثم سرعان ما تولى منصب المستشار الأول لجمهورية ألمانيا الاتحادية (الغربية) حتى عام 1966، ويعتبر “إرهارد” صاحب الوصفة السحرية الواقعية التي أعطت شرارة المعجزة الألمانية القائمة حتى الآن.
وأنصحكم بقراءة مقالة بعنوان: أكبر الحزم التحفيزية في العالم، والتي تمت الإشارة فيها إلى البرنامج التحفيزي الذي قدمته ألمانيا.