صناعة المحتوى الرقمي في العالم العربي

قصة قصيرة جدا !!

عندما كنتُ في عمرِ العاشرة، راودني سؤال بشكل يومي، خاصةً مع انتشار الالعاب الالكترونية على أجهزة الحواسيب المنزلية، وقد كان فحوى هذا السؤال: “لماذا لا نستطيع صناعة مثل هذه الألعاب في بلادنا؟”. 

وعندما تقدمتُ بالعمرِ قليلاً وجدتُ أن أكثر الاجابات نابعةٌ من وجهة نظرة متشائمة، لا من من منبع وجهة نظر مُقنعة؛ حيث كانت تدور حول “أننا نحن العرب لا نعرف كيفية صناعة إبرة و خيط”. ومع التقدم بالعمر أكثر أجدني أسأل نفس السؤال، ولكن بطريقة مختلفة فبات نص السؤال: “لماذا لا نستطيع نشر محتوى مميز مثل فيديو أو موقع الكتروني أو حتى لعبة بسيطة للهاتف النقّال”، وهنا تجدر الملاحظة أن الإجابة التقليدية التي كنتُ اسمعها قد اختفت؛ حيث أن شبكة الانترنت أصبحت متاحةً للجميع، وأن لغات البرمجة باتت متوفرةً لأي هاوٍ، بل إن ميزة الكاميرات أصبحت من البديهيات المُسلمة والموجودة في جيب كل  واحدٍ منّا، وهذا يدفع لتكرار نفس السؤال السابق وهو: لماذا لا نستطيع أن نقدم محتوى رقمي مميز في العالم العربي؟

على الرغم من الكثير من المبادرات الطيبة هنا وهناك، والعديد من القنوات التي تبث المحتوى الرقمي المصور من فيديوهات و شروحات، والعدد الجيد من المواقع الالكترونية الخدماتية التي تنتشر في الوسط الرقمي العربي هذه الأيام، إلا أننا بحاجة لتغيير ثقافة الإنسان العربي من صفة المستهلك الى صفة الإنسان المُنتِج (وهو الأمر الذي فشلنا فيه على مستوى الإبرة و الخيط التي تحججت بها الإجابات التقليدية القديمة التي أشرت إليها)، وللصراحة فإن الأوضاع بشكل نظري وتقني، هي أوضاع أفضل بكثير، بل إن الكثير من المعوقات السابقة تم التغلب عليها بسبب التطور المتسارع والذي يصلنا بشكل متزامن مع مختلف الأمم والدول الأخرى، ويبقى في نظري أن هناك معوقا رئيسيا واحداً ما زال جاثما متحديا أي تغيير أو تطوير، وهو ثقافة الإنسان نفسه! فعلى سبيل المثال دعونا نستعرض هذه الامثلة سويا:

1- مريم طالبة جامعية، وإلى جانب دراستها وغيرها من شؤون حياتها، إلا أنها تقضي يومياً ساعتين في تصفح موقع مثل اليوتيوب لمشاهدة التسجيلات الفكاهية تارة، والمسلسلات المستوردة تارة اخرى، و العديد من الامور التي يعرفها أغلبنا، ويطول شرحها. ويبرز هنا السؤال: ما الضير من أن تقوم مريم ومن في مثل سنها من نشر محتوى رقميٍ مميز، على نفس الموقع التي تقضي عليه ساعات طويلة من غير نفع أو مردود؟ و ما الذي يمنعها من تطوير فكرة جديدة وصياغتها على شكل محتوى رقمي عربي جديد وأصيل؟ فالكاميرا في الجيب وسرعة الإنترنت لا بأس بها، واليوتوب لم يذكر أنه قام بطرد إنسان أو منعه من رفع فيديو سواء كان عربيا أو أعجميا، بل إن الافكار تعتبر نبع لا ينضب وأرض خصبة لمن أراد استخراجها، وفي هذا المثال دعوة للجميع لأن يكون عاملا مؤثرا أو مُحفزا لنفسه أو من هم حوله لاستخراج نسخة ريادية أصيلة المحتوى وعربية المنشأ.

2 – المثال الآخر، وهو الطالب المدرسي “علي” والذي يبلغ الخامسة عشرة  من عمره، ولكنه يقضي أكثر من ثلاث ساعات مع ألعاب جهازه المحمول، ومشاهدة مقاطع البث المباشر من أمهر اللاعبين، وإن قدمت بسؤال علي عن أي أمرٍ يخص اللعبة، فإنك ستفاجئ بشكل الإجابة الوافية الشافية التي سيقدمها لك في كل ما يخطر وما لا يخطر في ذهنك عن هذه اللعبة، وهنا يبرز السؤال الآخر: لماذا لا يتحول “علي” من مُشاهدٍ مخلصٍ إلى صانع محتوى؟ حتى وإن كان في نفس الموضوع! وماذا لو استطاع أن ينقل شغفه في هذه اللعبة الى حب في البرمجة والتطوير في هذا العمر؟ بحيث يتحول هذا الشاب إلى فرد مُنتج في مجتمعه في مجالٍ يحبه بل في مجال قد يضيف إليه الكثير! وبالتالي الانتقال شيئا فشيئا من نمط الفرد المستهلك الى نمط الإنسان المنتِج.

هذه بعض الامثلة على سبيل المثال لا الحصر! ويمكنك استخراج أمثلة كثيرة من حولك، بغض النظر عن العمر والسلوك والشغف، وتسطيع أن تجري نفس المحاكاة السابقة والخروج بنفس النتائج أو نتائج مقاربة لها. إن الأمر بسيط جدا، فالموارد متاحة للجميع والافكار لم تكن يوما حكراً على أحد، ولكن الدافع هو من يحتاج إلى إعادة صياغة، والعاتق هنا مُلقىً على الأهل، والنظام التعليمي الأولي، والثانوي، وتوجيه الطاقات الكبيرة جدا نحو المكان الصحيح. إننا بحاجة إلى جيل لديه الثقة بنفسه أولا، وبالمحيط القريب منه ثانيا، لكي يستطيع أن يبدع و يقدم لنا محتوى رقمي مميز في جميع المجالات.

لماذا نحن بحاجة صناعة المحتوى في العالم العربي ؟

نحن لسنا بحاجة الى مؤثرين اجتماعين (Influencer) و لسنا بحاجة الى (Make up artist)، نحن اليوم بأمس الحاجة الى شباب ريادي بامتياز، قادر على انشاء محتوى عربي رقمي مميز، وحينما أشير بلفظة شباب، فإنني أشير بالحاجة إلى نصف الشباب العربي القادر على إنتاج محتوى في جميع المجالات، ماذا وإلا فاننا سوف نذهب مبتعدين عن باقي العالم، بشكل تتسع معه الفجوة بينا وبينهم، وبوضع سيستمر معه أبناء مريم وأحفاد علي في هدر ساعاتهم على مشاهدة فيديوهات، أو القضاء على أعمارهم على ألعابٍ من إنتاج المُصرّين على التمسك بأحلامهم وتميزهم وإنتاجهم من الدول الأخرى.

موضوع صناعة المحتوى في العالم العربي يطول شرحه، ويتفرع الحديث فيه كثيرا، إلا أن خلاصة الأمر -إن صح التعبير- تكمنُ في ايجاد آلية، أو تطوير استراتيجة، نسطيتع من خلالها، الانتقال من كوننا مستهلكين للمحتوى، إلى صانعي محتوى مميز وأصيل، وتجدر الاشارة هنا الى جائحة الكورونا، وما قدمته من فرصة للجميع لإعادة النظر في الكثير من الممارسات سواء المهنية أو السلوكية أو حتى على صعيد التفكير ومنهجيته.


أقرا ايضا 

هل هذه هو الوقت المناسب لبدأ اي مشروع؟

" لا شيء اكثر صعوبة مثل ان تصف نفسك للاخرين " ساهر علاونة ريادي اعمال الكترونية صغيرة و صانع محتوى رقمي بسيط بالاضافة الى عمله الاساسي في مجال الهندسة المدنية